أردوغان .. ومعركة "مفترق الطرق" النهائية
تاريخ النشر : 2022-12-04 11:58

يواجه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تحديا استثنائيا هذه المرة يختلف عما مر به سابقا، وهو يتعلق بالاستحقاق الانتخابي لرئاسة الجمهورية، ارتباطا بالمتغيرات التي حدثت في تركيا على صعيد شعبية حزب العدالة التنمية والفترة الطويلة من حكمه ، التي كان هو فيها كل السلطة، يديرها كما يشاء نظرا لأن حزبه مع تحالفاته أعطته مكنة التحكم التنفيذي والتشريعي في مقدرات الدولة، معتمدا على الأغلبية التي يتمتع بها في البرلمان، حتى بات البرلمان أداة طيعة في يدة يوجهها كما يشاء.
ولذلك كان سهلا بالنسبة له تغيير النظام السياسي من برلماني إلى رئاسي لإحكام قبضته على الحكم مع أن هناك معارضة شديدة لذلك. لكن فترة الصعود والحضور الإيجابي والازدهار الاقتصادي حل محلها أزمة اقتصادية واشتباك سياسي مع العديد من الأطراف الإقليمية ودول الجوار حتى انعكست نظرية صفر مشاكل إلى صفر أصدقاء، لكنه مع اقتراب استحقاق انتخابات رئاسة الجمهورية عام 2023 ، شهدت مواقفه استدارة جديدة من أجل ترميم العلاقات مع الدول التي تعامل معها من موقعه المتخيل كخليفة المسلمين ومدافع وحاضنة لقوى الإسلام السياسي حتى في مواجهة دولها. لتخفيف حالة العداء مع بعض تلك الدول من أجل تحسن صورته التي تأثرت كثيرا لدى الشعب التركي، فشهد حزب العدالة والتنمية هجرة عكسية لأعضائه نحو حزب المستقبل الذي أسسه أحمد داوود أوغلو رئيس الحكومة السابق ومنظر الحزب والرجل الثاني فيه، وإلى حزب الديمقراطية والتقدم الذي أنشأه علي باباجان مهندس الاقتصاد التركي فترة ازدهاره، فكان أن كبرت هواجس أردوغان، ولذلك اعتبر أن الانتخابات البرلمانية والرئاسية المنتظرة في تركيا العام المقبل، هي مفترق طرق بالنسبة لحزب العدالة والتنمية، والتحالف الجمهوري الحاكم والشعب والدولة.
حالة أردوغان التي تتجلى في مشاعر عدم الوثوق من نتائج الاستحقاق الرئاسي العام المقبل، وصفها سونر كاجابتاي، مدير برنامج الأبحاث التركي في "معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى"، قائلا: "أعتقد بأنه قلق وخائف من خسارته السلطة، ويبدو أن هذا أمر معقول، حتى بالنسبة إليه، للمرة الأولى منذ سنوات. إنه يشغل منصبه لفترة طويلة جداً، منذ نحو عقدين، ويعاني من إرهاق مؤسّساتي، ومتعب جداً بحيث يعجز عن تقديم أفضل أداء ممكن ومواجهة المعارضة طوال الوقت".
وبسبب من هذا الخوف طالب الرئيس التركي أعضاء حزبه بأن "يطرقوا أبواب جميع المواطنين في ولايات البلاد البالغ عددها 81 ولاية، من أجل الاستماع إلى همومهم ومشاكلهم وآمالهم" ومرد هذا الشعور بعدم الثقة يعود إلى أن تلك الانتخابات هامة لمستقبل الرئيس أردوغان (68 عاماً) وحزبه كونها ستكون الفرصة الأخيرة له دستوريا لتولي الحكم وهو المهووس بالسيطرة ومشاعر العظمة ، في ظل أوضاع اقتصادية وسياسية واستطلاعات رأي تظهر تراجع شعبيته وشعبية حزب العدالة والتنمية.
ويبدو أن مشاعر الخوف بفقدان هالة الحكم والنفوذ والقوة لشخص بمواصفات أردوغان الذي يمكن وصفه بأنه شخص من الصعب التنبؤ بسلوكه، وما يفاقم من وضعه أنه يعتبر لأسباب نفسية مستقرة في ذهنه أنه الوصي على إرث الدولة العثمانية، مستحضرا ذلك الإرث الذي شمل مساحات واسعة من العالم لعشرات السنين، مما جعله يعتقد، "أنه تركيا وتركيا هو" ، ومن ثم فإن تمثُل هذه الخلفية الفكرية، من شأنه مضاعفة هواجسه من الخسارة في ظل وجود معارضة جدية هذه المرة بعد تشكيل حزبين جديدين لاثنين كانا الرجلين الثاني والثالث في نظامه ـ إضافة إلى الأكراد الذي يخوض حرب إلغاء غي حقهم.
وبسبب من ذلك فهو على يقين أن الأمور في الانتخابات المقبلة لم تعد كما كانت في المرة السابقة، لذلك اعتبرها "مفترق طرق"، ولهذا فهو يحاول بكل الوسائل حتى لو ناقض نفسه أن يرمم صورته وصورة حزبه لدى الناخب في تركيا من كل الإثنيات، ولأنه سبق أن استخدم واستثمر العامل الخارجي في تعزيز صورته في الداخل التركي، بظهوره كرجل يسعى لاستعادة مجد الإمبراطورية العثمانية ، وصلت به حد اعتبار بعض مناطق دول الجوار حقا لتركيا، متجاوزا حتى منطق الجغرافيا، بل ولبس في بعض الأحيان عمامة الخليفة وعباءته. لدغدغة مشاعر الأتراك بهدف الكسب السياسي.
لكن ذلك السلوك المستهجن من العديد من تلك الدول، كانت نتائجه سلبية على الداخل التركي مما جعله يحاول تدارك ذلك عبر مصالحات أو الإعلان عن نوايا نحو ذلك بهدف استثمارها في صندوق الاقتراع غير المضمون تماما.
واللافت هنا أن مواقف أردوغان فيما يتعلق بإعادة العلاقات مع سوريا إلى نصابها تأتي في سياق الاستثمار السياسي انتخابيا، لكنها تعكس تناقضا هو انعكاس لشخصية أردوغان ، في سياسته مع دول الجوار، فهو والكلام له، "يمكن أن تعود الأمور إلى نصابها مع سورية في المرحلة القادمة مثل ما جرى مع مصر" على قاعدة كما قال إنه لا يوجد استياء أو خلاف أبدي في السياسة، لكن ما فات أردوغان أنه بالنسبة إلى سوريا، المشكلة لم تكن سياسة وحسب، فهي أكثر تعقيدا من ذلك، خاصة وأن سوريا سبق أن أمنت حدوده الجنوبية في مواجهة حزب العمال الكردستاني عبر اتفاقيات أبرمت بين البلدين.
لكن هذا التكرار من قبل أردوغان لرسائل المصالحة إلى سوريا، رفضتها دمشق بشكل واضح، وهي أنها لن تمنح أردوغان هدية مجانية لاستثمارها داخليا وفي صندوق اقتراع الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في العام المقبل، بل إن دمشق رفضت الاستجابة لضغط موسكو بعقد لقاء قمة بين الأسد وأردوغان بكل ما تمثله العلاقات بين دمشق وموسكو، وهي بذلك تقول لأردوغان إن إعادة الأمور إلى نصابها ليس قرارا لأنقرة تقرره متى تشاء وإنما أيضا قرارا سوريا، لكن عندما تستجيب أنقرة للمطالب السورية. لأن ما بينهما ليس سياسة، بل هي أرض وشعب ومقدرات سورية انتهكت وما تزال تنتهك.
وربما يعتقد البعض أن تأثير المسألة السورية في الانتخابات التركية ليس كبيرا، لكن المشكلة هذه المرة هو أن تأثير موقف تركيا من الأزمة السورية داخلي بامتياز، وهي ورقة مهمة في يد المعارضة ستستثمرها بقوة سواء لجهة الأمن، أو الإرهاب واللاجئين والتأثير السلبي لوجودهم على الاقتصاد التركي، وذلك كما نقدر هو أحد أوجه الأزمة السورية التي خلقتها أنقرة عن سبق إصرار، ويبدو أنها تحصد الآن نتائجها وثمارها المرة بسبب من سياسات أردوغان التي هي أحيانا بمثابة نزوات حاكم أكثر منها سياسة دولة.
لكن في كل الأحول، مع أن أردوغان خائف، لكن المعارضة حتى الآن لم تتفق على مرشح لمواجهته، وهو الذي تدعمه ماكنة الدولة السياسية والإعلامية، في ظل كثرة مرشحي المعارضة. ومع ذلك بمكن القول إنه كلما اقتربنا من الموعد ستزداد الحملة شراسة وقد تتخذ إجراءات صعبة ضد قوى المعارضة إذا ما شعر أردوغان بخطر خسارة المعركة التي كان قد وصفها بأنها مفترق طرق.. كونها بامتياز معركته النهائية..