الجبهة الشعبية.. الهدف المرحلي والتيار الثالث
تاريخ النشر : 2022-12-12 12:06

منذ البدء مثل وجود الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، حالة كفاحية في كل المجالات، تأسست في سياق التطور في تجربة حركة القوميين العرب في فرعه الفلسطيني، بكل ذلك الشغف والحب والتضحية والإثرة والصدق ، لتضيف إلى تلك المناقب جملة من الخصال الثورية التي اكتسبتها من تجربة العمل الميداني ضد الاحتلال في كل فلسطين التاريخية وملاحقته حتى خارج فلسطين، وتجاؤب ثورات الشعوب التي حققت استقلالها، متكئة على خيار فكري وشرط تنظيمي وكفاحي منح الجبهة منذ ذلك الحين قوة الحضور الذاتي والوطني والقومي وحتى الأممي، لتشكل بذلك ضمير الثورة الفلسطينية وبوصلتها.
وقد لعب مؤسسو الجبهة من ذلك الرعيل الاستثنائي دورا مركزيا في ذلك، بما لهم من قوة حضور وتأثير ذاتي، تجاوز البعد الوطني الفلسطيني إلى القومي وحتى الأممي، بما تملكه نلك القيادات من خصال وكاريزما، جعلت من مجموع أعضائها وأنصارها رقما صعبا يتسم بالشجاعة والجرأة والتواضع ونظافة اليد وقرن الأقوال بالأفعال، وكانت تملك الشجاعة المقترنة بالحرص على تصويب سياسات الطرف الفلسطيني المتنفذ في إطار الوحدة ووحدة منظمة التحرير الفلسطينية، بعيدا عن أي مصلحة ذاتية. عبر كل المحطات التي عاشتها الثورة الفلسطينية قبل وبعد الخروج من بيروت ، وخيارات قيادة المنظمة، التي عكست طبيعتها الطبقية، المراوغة، التي لم تستطع أن تتكيف إيجابيا مع ما جرى من تشتيت للوجود الفلسطيني المسلح بعد احتلال بيروت، وارتكبت خطيئة أوسلو بكل آثارها التي يحصد الشعب الفلسطيني نتائجها حتى الآن، وشكلت ذريعة لهذا الهوان العربي ممثلا بالتهافت التطبيعي مع كيان الاحتلال..
ومثل متغير التحاق قوى الإسلام السياسي بالثورة بعد انتفاضة عام 1987 نقلة نوعية في العمل الفلسطيني، لكنها شكلت في أحد جوانبها تحديا لكل القوى الفلسطينية الوطنية والديمقراطية، كون البعض من القوى التي التحقت بالثورة، يبحث عن موقع ويرى أنه الأحق بقيادة المرحلة، وهذا النزوع وربما شبق السيطرة لدى البعض، كان من نتائجه هذا الانقسام الذي تعيشه الحالة الفلسطينية جراء سيطرة حماس الدموية على قطاع غزة بعد انتخابات عام 2006 ، بسبب المصالح المتضاربة بين حركتي فتح وحماس. لتنتج هذه الثنائية البغيضة سلطتين، إحداهما سلطة أمر واقع في غزة وسلطة في رام الله ، في غياب دور وازن للقوى الأخرى القادر على كسر هذه الثنائية وإعادة التوازن للحالة الفلسطينية وفي الأساس القضية الفلسطينية المنقسمة بين طرفي الانقسام المستعصي على الحل، لأن كل طرف يبحث عما يعتبرها مصالحه دون النظر لمصلحة الشعب الفلسطيني، أي الوحدة في مواجهة الاحتلال، وهنا نعتقد أن كسر هذا الثنائية و خلق توازن يعيد للقضية الفلسطينية والثورة وحدتها وقوتها منوط بوجود قطب ثالث عريض، الجبهة مؤهلة لأن تقوم به خاصة وهي التي طالما عملت على ذلك ويبدو مناسبا الآن وضروريا بعد انعقاد مؤتمرها الثامن ، وهو موضوعيا دور يبحث عمن يقوم به والجبهة تستطيع ذلك.
ولا شك أن الجبهة وهي تجدد نفسها عبر مؤتمراتها التي شكلت محطات سياسية وتنظيمية وكفاحية في سياق المراجعة والتصويب والتجديد لتتسلح بهمة وعزم في معركة تحرير فلسطين بأبعادها السياسية و الفكرية والتنظيمية والعسكرية، يبدو أن المؤتمر الثامن بكل الأبعاد الديمقراطية الواسعة التي رافقته، وقررت نتائجه ، إذا جاز القول أن ذلك جرى ارتباطا بشرط موضوعي، طال هيئاتها القيادية بعد عملية تجديد واسعة ، بأن اعتبرت الجبهة أن المؤتمر مثل نقلة نوعية تنظيمية وسياسية عكست رؤيتها في مواجهة المشروع الصهيوني في فلسطين.
واللافت لي كمراقب، هو التخلي عن الهدف المرحلي في رؤيتها السياسية، ليكون الهدف الاستراتيجي ممثلا في أن فلسطين كل فلسطين من النهر إلى البحر هي الهدف المرحلي والنهائي، وصولا للدولة الديمقراطية .
وكأني هنا بالجبهة تقول إن النص على الهدف المرحلي هو تنازل موصوف، لكن السؤال هنا أليس الهدف الاستراتيجي كناظم نهائي، يمكن أن يحتوي الهدف المرحلي ، وهو ما أكدته تجربة الأحزاب والقوى الثورية التي حققت أهدافها الاستراتيجية دون أن تكون الأهداف المرحلية نافذة للتنازل، كون التنازل له علاقة بالأدوات وقوة حضور الفكر لدى قياداتها السياسية.
فالمشكلة ليست في العنوان (المرحلي ) وإنما في محتوى هذا الهدف ، ووعي وصلابة وفاعلية الأداة المنوط بها تحقيق ذلك الهدف، وفي رأيي أنه من الممكن أن تحدد هدفا استراتيجيا عاما شاملا، لكن الصعوبة هي في جعله أهدافا مرحلية قابلة التحقق وتخاطب جميع فئات الشعب وتعبئ تحرض به، كونك لا تخاطب فقط حزبا عقائديا ، وإنما كافة أبناء الشعب التي تنتظر هدفا قابل للتحقق في مدى زمنى نسبي، وهذا رهن بوجود أداة قادرة على اجتراح ذلك، عبر الربط الجدلي بين المرحلي والاستراتيجي ، دون أي مكنة تجعل من المرحلي مشروعا للتنازل، وإنما جسرا للهدف الذي يليه، أو للهدف النهائي.
فالمشكلة كما أظن ليست في العنوان ولكن في محتوى هذا العنوان ( الهدف المرحلي) الذي يجب أن يكون محصنا من أي نزوات للبعض، ولذلك يبدو لي أنه قفز عن الواقع أن يجري التوجه لفئات الشعب في تعددها وتنوعها ضمن شروط مستواها الثقافي والاقتصادي الاجتماعي وربما مصالحها الآنية، بالهدف الاستراتيجي مغلقا، دون منح هذا المواطن مكنة انتظار تحقق شيء ملموس من هذا الهدف، فالهدف الاستراتيجي يمكن أن يكون مجموعة أهداف مرحلية، ضمن الصيرورة التي تحكم تلك الأهداف عبر التحول المستمر والمتصاعد وصولا للهدف النهائي، أي الهدف الاستراتيجي. ففي سياق العلاقة الجدلية تلك لا يمكن تصور إنجاز ذلك دون توفر شرط الأداة، التي تحقق ذلك مرحليا واستراتيجيا، بفعله ووزنه السياسي والكفاحي والتنظيمي وحاضنته الشعبية، وبالتأكيد مع كل القوى التي يمكن أن تتبنى هذا الهدف في مراحله المختلفة،من المرحلي حتى النهائي. ولا أتصور أنه في ظل العبث الذي تعيشه الساحة الفلسطينيةـ، ممثلا في واقع الانقسام عبر ثنائية طرفين أحدهما يحتكر أبوة المشروع الوطني الفلسطيني بدعوى أنه هو من أطلق الرصاصة الأولى ، وآخر يعتبر أنه مبارك ومقدس ورباني ضمن فكر سياسي مطلق ساهم في تشظي المشهد الفلسطيني، سوى البحث عن إعادة التوازن للحالة الفلسطينية التي هو حاجة موضوعية، لتفكيك هذا التناقض الذي تمثله تلك الثنائية، من خلال تيار ثالث أو قوة ثالثة، وهي مسألة طالما كانت على جدول الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ومنذ عقود، مع أن المشهد الفلسطيني لم يكن بهذه القتامة، والانحدار سواء بفعل طرفي الانقسام، أو حالة الهوان العربي التي أصبحت فيها بعض الدول العربية جزءا من معسكر الأعداء أو لجهة تغول الكيان الصهيوني وبشكل غير مسبوق،
وأعتقد أن هذا الواقع يلقي على كاهل الجبهة مهمة إنقاذ كبرى تتعلق بالعمل وليس التمني والتنظير بإيجاد صيغة ضمن رؤية سياسية وكفاحية وتنظيمية من قوى وأحزاب وشخصيات ومنظمات مجتمع مدني كي تكون تلك الصيغة رافعة وفاعل أساس مقرر على طريق إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية، تواكب حالة النهوض والنمو المتصاعد للكفاح المسلح الذي تخوضه قوى شبابية متعدية للفصائل والأحزاب سلوكا وفعلا ، كونها قدمت مثلا في القدرة على تجاوز الفصائلية بمصالحها الضيقة ممثلة في أين أكون؟ في مركز قيادة العمل الفلسطيني؛ نحو حالة من التضحية وإنكار الذات في سبيل الهدف يمثلها هؤلاء الشباب.
وكمراقب أعتقد أن الجبهة بإرثها وتجربتها وهي التي مثلت على الدوام ضمير الثورة، مؤهلة لهذا الدور ، واعتبار أن ذلك ليس ترفا فكريا، بل خيارا سياسيا وفكريا ووطنيا بامتياز له الأولوية كهدف آني، ومن المهم أن تتلافى الجبهة فيه كل المعوقات التي منعت سابقا دون تحقق هذا الهدف بالغ الأهمية ، بخلق ثقة متبادلة بين كل من هو مستعد لذلك من القوى ، وأيضا الوصول إلى مقاربات مشتركة عبر التفكير والعمل خارج الصندوق ، حتى يجري تجاوز معوقات التجارب السابقة، سعيا لأن يشكل هذا التيار رافعة حقيقية للعمل الوطني الفلسطيني دون وصاية أو أبوة أو احتكار، وأن يوضع نصب الأعين، أنه ليس منافسا أو منازعا لأحد، ولكنه إضافة وطنية جدية واعية للعمل الفلسطيني لإحداث حالة التوازن المطلوبة موضوعيا في المشهد الفلسطيني.. نعم هي مهمة ليست سهلة ولكنها ممكنة أمام هذا الاستحقاق المهم الذي يتطلب الإرادة ووعي المخاطر والاستعداد لتقديم التنازلات المتبادلة من أجل ذلك ..