الولايات الإعلامية غير المتحدة
تاريخ النشر : 2023-02-04 11:45

«...أعتذر من اللبنانيين الذين لن نتمكن من تلبية طموحاتهم ومطالب ثورة 17 تشرين 2019. التغيير بعيد المنال، وبما أن الواقع لم يطابق الطموح الذي كنا نسعى إليه، وبعد هول كارثة بيروت، وانحناءً أمام آلام الجرحى وتجاوباً مع الإرادة الشعبية بالتغيير أتقدم باستقالتي من الحكومة اللبنانية».

اعتذار لوزيرة الإعلام السابقة الشابة منال عبد الصمد في (6/8/2020) بعد يومين من انفجار مرفأ بيروت ( 4 آب 2020)، وقبل يومين من إعلان استقالة حكومة حسّان دياب (28/1/2020-9/8/2020) التي استقالت وصرّفت الأعمال بانتظار حكومة نجيب ميقاتي (10/9/2021)، مع أنّ لبنان بطاقاته الإعلامية التي تجاوزت رقعته ال10452 كلم مربع بكثير، وعرف 32 وزيراً للإعلام، ووزيرة واحدة نال الإعلام معها علامة جيّدة.

لماذا ؟

لأن المرأة طاقة من التواصل والاتّصال أوّلاً، ومتميزة، بيولوجياً وبالممارسة، بتربية الأجيال، ولأنّ الإعلام في لبنان الذي أسميته «الميديا ستيت»، أو«الولايات الإعلامية غير المتحدة» تمطّ أعناقها عالياً وتتنافس كأنها «سلطة السلطات» لا السلطة الرابعة كما عرفناها في الأنظمة الديمقراطية.

ولأنني صُعقت ثانياً، بوزير لبناني بالطبع، غالى معبّراً عن سعادته باختيار «بيروت عاصمة الإعلام العربي للعام 2023» في «زمن أسود فشلنا جميعاً بإخراج الساحة اللبنانية من أعبائه وكوارثه» كما قال، ليذكّرني، ومشيداً بالوزيرة في المحادثة الهاتفية.

صحيح أنّ الوزيرة اقترحت بكتابها في 27/5/2021 على الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، باعتبار «بيروت عاصمة الإعلام العربي، وصحيح أن مجلس وزراء الإعلام العرب تجاوب مشكوراً في 16/6/2021 معتبراً بيروت «عاصمة السلام والتسامح والمحبة والعيش المشترك بين كافة الديانات والجنسيات»، والأكثر صحّة من هذا كلّه الانشغال العربي اللطيف بهموم لبنان واللبنانيين بانتظار إخراجهم من مواقد التشظّيات المقيمين فيها، لكنّ ما ليس صحيحاً على الإطلاق، زلّته الشائعة في «الساحة اللبنانية»، تلك الصفة اللزجة الثقيلة الملتصقة بألسنة السياسيين والإعلاميين وعقولهم تباعاً، وهذا ما لا نعثر عليه في أي بلدٍ آخر عند تناولهم لوطنهم.

كان، وما زال، وسيبقى يستفزّني مصطلح «الساحة» هذا، باعتباره من الملصقات المُدانة والمرفوضة والمُعبّرة سلباً عند الكلام، أو الكتابة عن لبنانن وفيه، لسبب بسيط يدركه اللبنانيون أكثر من غيرهم، ويُدركه معهم من عرفوا الساحات الفالتة وأعباءها وخرائبها التي دمغت تواريخ الشعوب بما يتجاوز الوصف.

يا لأهوال الساحة اللبنانية المفتوحة العارية والمشرعة أبداً على العالم من الجهات الأربع، حيث لا أبواب لها أو نوافذ، ولا مداخل أو مخارج، أو حرّاساً يضبطون الداخلين والخارجين منها وفيها. كيف نلملم وطناً من الساحات؟

هكذا اعتاد اللبنانيون، إذن، لا السياسيّون وحسب، بالنظر إلى وطنهم بصفته ساحة أو الساحة المفتوحة على العالم في الخطب الرسمية والإعلامية والشعبية. وإذا كانت تلك الإلفة دليلاً ثابتاً للصفة المعبّرة سلبيّاً، فإنّ شعوباً أخرى، ومنها الفرنسي، مثلاً، يرفضون قطعاً مثل تلك التسمية التي راحت تقوى وتترسخ بفعل تقنيّات الاعلام وفورة الاتّصالات والشاشات في عصر العولمة، فرأوا فيها «صفة شديدة الخطورة، قد تبدو فيها فرنسا ساحة بلا سياج»، بينما تحافظ شعوب أخرى مثلها، بالأطر والقوانين والسلطات الرقابيّة متوخّية الضبط والتقنين والتنظيم وفقاً لما هو حاصل في الكثير من الدول الأخرى.

صحيح أنّ التماهيات اللبنانية بفرنسا واسعة، لكنّها تفتقر للتدقيق، لو قرأنا ببساطة ما ورد حرفيّاً مثلاً في رسالة «المجلس الأعلى للإعلام المرئي المسموع» الذي تمرّست طالباً ومتدرّباً فيه لاستيعاب فلسفة الحريّات الإعلامية وشروطها وحدودها، وقد وردت في الرسالة رقم 121 أكتوبر/ تشرين الأول 1999 المتضمّنة خلاصة الأوراق المقدّمة في «القمة العالمية لتنظيم الإنترنت ووسائل الاتصالات الجديدة»، والتي كنت أعتبرها خلال حياتي الأكاديمية مرجعاً لطالباتي وطلاّبي في كاية الإعلام، وقد شغلوا الشاشات والمقاعد الوزارية الإعلامية.

تستدرجني «الساحة» للتنبيه مجدّداً للفروقات بين: «الإعلام اللبناني» و«الاعلام في لبنان»، حيث يجد اللبناني نفسه في الخارج ثم في الداخل، وعلى قارعة الطرق المتشعبة من دون سياج لكل عبور سياسي حزبي مذهبي إعلامي وعبر الإعلام.

جاء في قانون إعادة تنظيم الإعلام المرئي المسموع بعد الطائف ما حرفيته: «الإعلام في لبنان حرّ»، كأننا دمغة مصغّرة للساحات المذهبية المفتوحة على رياح الأرض. هكذا تنعكس معاني الساحة قوة وضعفاً، اتساعاً وانتشاراً وضيقاً، تبعاً للظروف الداخلية المعقدة التي لم تفارق هذا الوطن الصغير، والتي تركت نتائجها الخطرة وتأثيراتها الثقافية والاجتماعية والسلوكية واللغوية على هويّات الجميع.

كيف نسلخ من الأذهان مقولة ذبلت باعتبار الساحة همزة الوصل بين الشرق والغرب، أو المفصل الجغرافي به تسترشد قارّات العالم؟ إنها مقولة سقطت لكنها مقيمة بالألسن والأفكار ومناهج التعليم وبرامج «الميديا ستيت».

عن الخليج الإماراتية