حوارة بين "الموت للعرب" "والموت: للمخربين "، والضم الزاحف
تاريخ النشر : 2023-03-09 12:05

تحاجج هذه المقالة بأن المقاربة لحل الصراع على فلسطين لم تعد تدور حول إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود عام 1967، وإنما حل محلها مقاربتان ترمي الأولى (الاسرائيلية) إلى ابادة واستئصال الشعب الفلسطيني عبر توسيع مفهوم " الموت للمخربين " ليشمل كل الفلسطينيين، بما يجعله نفس شعار " الموت للعرب " السابق مع بعض التغليف،  وجاء بوغروم بلدة حوارة بروفة تطبيقية أولى لهذا الطرح،  هذا فيما تسعى المقاربة الثانية العربية - الدولية لتأجيل الضم الرسمي والإبادة والإستئصال مقابل التهدئة وتنظيم وتنفيذ مشاريع اقتصادية مشتركة في المنطقة ج وقطاع غزة في ظل استمرار الاحتلال والاستيطان الاستعماري الزاحف وذلك وفقا لما جاء في صفقة القرن واتفاقيات ابراهام الذين حلا محل مفهوم الأرض مقابل السلام السابق .

مقدمة

مثل يوم 26 شباط الماضي يوما مفصليا يعبر عما هو أعمق مما يكشفه التحليل السياسي اليومي . شهد ذلك اليوم عقد مؤتمر العقبة بمشاركة امريكية مصرية اردنية فلسطينية اسرائيلية ، وهدف إلى تحقيق التهدئة وخفض التصعيد ، وترافق المؤتمر وهو منعقد مع عملية فلسطينية أسفرت عن مقتل مستوطنين اثنين في حوارة قرب مدينة نابلس ، وفي الليل اقتحم ٤٠٠ مستوطن البلدة المذكورة وقتلوا شخصا واحدا وأصابوا ١٠٠ آخرين ،  وأحرقوا ٣٥ منزلا بشكل كامل و٤٠ بشكل جزئي ، كما أحرقوا أكثر من ١٠٠ سيارة في حي كامل من أحياء بلدة حوارة وجرحوا العشرات من الفلسطينيين الآمنين في بيوتهم. أي لقد اقترنت محاولات التهدئة وعمليات التصعيد وتحايثت في ذات الوقت مع بعضها البعض . فما هي أسباب هذا التطور ؟ ونحو أية اتجاهات تجري مفاعيله ؟

الاتجاهات الجديدة

بداية يعبر عنف المستوطنين المستعمرين المتصاعد كما برز في بوغروم حوارة عن الانزياح من تيار الابارتهايد لصالح تيار الابادة والاستئصال داخل التيار الصهيوني الديني كما يسمي نفسه ، وهو الانزياح الذي عبرت عنه نتائج الانتخابات الاخيرة التي جرت في اسرائيل في أول تشرين ثاني الماضي حيث هزم الاتجاه الصهيوني الديني الذي يدعو إلى تجنيس فلسطينيي المنطقة ج بالجنسية الإسرائيلية  وهو ما كان يعبر عنه حزب يمينا برئاسة نفتالي بينيت ورفيقته اييلت شاكيد ، لصالح الاتجاه الآخر داخل الصهيونية الدينية الذي يدعو لإبادة الفلسطينيين وطردهم . الإتجاه الذي هزم يقبل كما بينت في دراسة سابقة بإبقاء جزء من الفلسطينيين في بلادهم وممارسة الابارتهايد أي التمييز السياسي والاستغلال الاقتصادي والتهميش الاجتماعي ضدهم ،  أما الاتجاه الذي نجح فقد سميته بالاتجاه الابادي الاستئصالي ( أي اقتلاع وترحيل من لا تتم ابادتهم )، وقد عبر سموتريتش عن هذه التوجهات خير تعبير من خلال خطة الحسم التي طرحها منذ عام ٢٠١٧ والتي تقضي بتخيير الفلسطينيين بين الطاعة الكاملة للأسياد ، وبين المقاومة والقتل جراءها ، أو الرحيل عن البلاد كخيار ثالث . جاء طرح سموتريتش لهذه الخطة استمرارا لما سمي ب " مشروع تحقيق الانتصار التام على الفلسطينيين " والذي طرحه دانييل بايبس منذ عام ٢٠١١ عبر " منتدى الشرق الأوسط " الذي يرأسه ، وأسس لهذه الفكرة ملتقيان ضاغطان في كل من الكونغرس الأمريكي والكنيست الإسرائيلي من أجل إقرارها رسميا ، وكان سموتريتش عضوا في الملتقى الذي نشأ داخل الكنيست الإسرائيلي لهذا الغرض . وجاءت صفقة القرن عام٢٠٢٠ لتتبنى أطروحات هذين الملتقيين عبر نصها على فرض السيادة الاسرائيلية على كل فلسطين، وأن إنشاء أي كيان فلسطيني ممكن فقط في كنف تلك السيادة وتحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة على الجانب المتعلق بحفظ الأمن والنظام، وقد تم تضمين صفقة القرن هذه في اتفاقات ابراهام بين اسرائيل والامارات العربية المتحدة والبحرين .

يمثل هذا الاتجاه الإبادي الاستئصالي القوة الرئيسة في الحكومة التي تشكلت  بعد الانتخابات الاخيرة بقيادة الليكود الحزب البراغماتي المنفتح على كلا اتجاهي الابارتهايد الإبادة والاستئصال، لا بل ويمكن القول أن تيار نتنياهو السائد في الليكود ينحو نحو الابادة والاستئصال اكثر من الابارتهايد وذلك بعد أن نجح في التنحية الكاملة لأمراء الليكود السابقين الذين كانوا يطرحون تجنيس فلسطينيي الضفة وممارسة الابارتهايد تجاههم وهو ما صرح به وكتب عنه أقطاب منهم مثل موشيه أرنس وزير الحرب السابق ، و رؤوفين ريفلين رئيس الدولة السابق . الفرق الوحيد الباقي أن ليكود نتنياهو يريد تحقيق الطرد بأساليب الحيلة وتوفير مراعاة جزئية وإن لم تكن كاملة للعلاقات مع دول التطبيع العربية ومع دول العالم، مع محاولة استدراج موافقات دولية وعربية لخطط الضم كما جرى من خلال صفقة القرن ،  وتضمينها لاحقا في اتفاقيات ابراهام . وفي المقابل يرى اتجاه الصهيونية الدينية أن على إسرائيل أن تفعل ما تريد ، ولن يملك العرب والعالم الحول والارادة لتغيير ما ستقوم به إسرائيل وسيكتفون ببيانات الإدانة وحسب . 

رغم ما تقدم غيرت الصهيونية الدينية شكليا من خطابها أثناء الحملة الانتخابية للانتخابات الاخيرة، فرأينا بن غفير يغير شعاره من " الموت للعرب " إلى " الموت للمخربين " ، وإذا تعزز هذا التغير في خطاب بن غفير فإنه سيعني انتقاله من خطاب الإبادة والاستئصال الى خطاب إبقاء غير " المخربين" في فلسطين مع ممارسة الابارتهايد تجاههم . فهل هذا هو ما حدث فعلا ؟

يشير البوغروم ( كلمة مستوحاة من مذابح القياصرة الروس ضد اليهود في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ) الذي نفذه المستوطنون المستعمرون في بلدة حوارة برعاية من لواء كفير الذي هو لواء المستوطنين في الجيش الإسرائيلي يوم ٢٦ شباط ، وما تلاه من تصريح لديفيدي بن تسيون نائب رئيس مجلس مستوطنات شمال الضفة الغربية بضرورة محو بلدة حوارة عن الوجود  ، وتأييد وزير المالية سموتريتش لهذا التصريح ، إلى أن تغيير الشعار من " الموت للعرب " إلى " الموت للمخربين " هو لعبة علاقات عامة وحسب ، تحمل في طياتها توسيع مفهوم " المخربين " ليشمل كل العرب، وهو ما جرى من ناحية عملية رغم تغيير الشعار الشكلي، فقد تراجع سموتريتش عن دعمه لمحو حوارة ، ولكن من ناحية عملية قام الجيش بعد البوغروم بمعاقبة اهالي حوارة بإغلاق محلاتهم التجارية لعدة أيام ، فيما قام المستوطنون بمهاجمة البلدة مرات ومرات بعد ٢٦ شباط ، كان آخرها بمشاركة مباشرة من وحدات لواء كفير في الجيش الاسرائيلي يوم ٦ آذار حيث تم اصابة ٣١ من سكان البلدة الفلسطينيين بجروح ، فيما تم تصوير الجنود والمستوطنين وهم يرقصون معا احتفالا بما تحقق من أذى ضد الفلسطينيين . زد على ذلك أن الشرطة الإسرائيلية قد تفادت اعتقال المستوطنين الذين قاموا بتنفيذ بوغروم حوارة ، وحين قامت باعتقال ثمانية منهم فقط تحت الضغط لاحقا ، فقد تم اطلاق ستة من الثمانية نظرا لعدم توفر الادلة ، وبعد ذلك قام بن غفير بالاتصال مع نتنياهو ليعبر له عن غضبه واحتجاجه لاعتقال المستوطنين المذكورين .

تحيل هذه التفاصيل الى عقلية ترى بأن التصعيد ضد الفلسطينيين ضروري جدا من أجل استدراج الفلسطينيين الى ردود افعال تجعلهم يوصمون اكثر بالإرهاب ، مما سيوفر في هذه الحالة الفرصة والمبرر كما يرى أصحاب هذه العقلية لمحو قرى فلسطينية بكاملها، ولطرد الفلسطينيين داخل وخارج بلادهم ، واغلب الظن أن الخطط لذلك قد باتت جاهزة ، مما يذكرنا بخطة داليت التي تم تنفيذها عام ١٩٤٨ وترتب عنها طرد الفلسطينيين من بلادهم في ذاك العام .

لعل بوغروم حوارة يمثل أحد المؤشرات على وجود خطط محو وترحيل جاهزة ولم تكن حوارة سوى البروفة لذلك ، أما المؤشر الثاني فيتمثل في تصريح لسموتريتش غاب عن منصات التحليل الإعلامي، حيث قال تعقيبا على قمة العقبة ما مفاده بأن التفكير النمطي السائد للبحث عن تهدئة لا زال يتم في إطار منهجية أوسلو التي ترى أن السلام يتم من خلال التهدئة. وقد اكمل بن غفير هذا التصريح بتصريحات أخرى أفاد بها بأن أساليب اوسلو لم تفلح في جلب الهدوء النهائي، لذا لا بد برأيه من استخدام اساليب اخرى اكثر جذرية لجلب هذا الهدوء النهائي الذي يحقق الأمن التام للاسرائيليين . لائحة بن غفير لجلب الهدوء النهائي بعد سحق الفلسطينيين وتحقيق الانتصار الكامل عليهم باتت معروفة ، وتشمل الاقتحامات للاقصى ، وتكثيف هدم البيوت ، وفرض عقوبة الإعدام، وسحب حق الإقامة والجنسية ، وتكثيف الاستيطان ، وإنشاء وحدات حرس وطني، والسماح للمستوطنين بحرق وتدمير القرى الفلسطينية ، وتشديد القيود على الاسرى وهكذا . ويكمل سموتريتش ذلك بإطلاق يدي المستوطنين في الاعتداء على القرى الفلسطينية وتعزيز نفوذه داخل لواء كفير، لواء المستوطنين في الجيش ، والتمهيد لخلق معازل في كل محافظة فلسطينية تكون منفصلة عن بعضها البعض بعد تفكيك السلطة الوطنية الفلسطينية التي يعمل جاهدا لتحقيق انهيارها .        

يحاول العرب والعالم احتواء هذا التيار اليميني المتطرف من خلال الاقتراب منه من أجل تقليص غلوائه . وبهذا الاتجاه ذهبت أدراج الرياح  مقاربة الأرض مقابل السلام السابقة  ، وتم الانتقال منذ اتفاقيات ابراهام الى مقاربة التهدئة تمهيدا لخلق استثمار إسرائيلي - عربي خليجي - دولي في المنطقة ج طرحت أفكاره عام ٢٠٢٠- ٢٠٢١، مرفقة في حينه بأفكار لمشاريع لتطوير الحواجز وجعل المرور عبرها أكثر سلاسة، مع إبقاء قطاع غزة تحت المتابعة القطرية . وفي شباط - آذار عام ٢٠٢٣ طرح الاتحاد الأوروبي أفكارا بهذا الشأن. أي أن أوروبا قد قررت أخيرا الالتحاق بمنطق اتفاقات ابراهام التي لا تطرح فكرة الأرض مقابل السلام ، بل تستبدلها بمقاربة تجميد الضم مقابل تنفيذ مشاريع مشتركة في المنطقة ج. وقد استند التقرير الأوروبي بهذا الخصوص الى ورقة سياسات أعدها معهد  ميتفيم الإسرائيلي ونشرت في شهر شباط الماضي تحت عنوان براق هو " المنطقة ج من مركز للنزاع الفلسطيني الإسرائيلي الى فضاء للسلام الزاحف".  يهدف العرب والعالم من هذه المبادرات إلى إحتواء المنطق الاستئصالي عبر التكيف معه بقبول السيادة الاسرائيلية الكاملة والعمل في إطارها .

من جهة الليكود فإنه يقبل التعاطي مع هذه المشاريع العربية والدولية ، ويقبل بتوظيف الأموال الخليجية في المنطقة ج، لا بل وفي القدس الشرقية أيضا ، كما يقبل بتسليم مصر والأردن العمل على ملف التهدئة مع السلطة الوطنية الفلسطينية وحكومة حماس في غزة، وفي هذا الإطار يقبل تأجيل إعلان الضم الرسمي ، ولكنه في المقابل يستمر في إجراء الضم الفعلي ، حيث قام قبل مؤتمر العقبة بإقرار إنشاء ١٠ آلاف وحدة سكنية جديدة في المستعمرات ، وشرع ٩ بؤر استيطانية استعمارية ، وهو ما غض العرب والعالم النظر عنه. أي أن ما يجري في الواقع ليس إلا لعبة يخدع العرب والعالم بها أنفسهم بكسب وقت مستقطع اضافي قبل اعلان الضم الرسمي ، فيما يستمر الضم الزاحف على قدم وساق مما يجعل اعلان الضم الرسمي هو مسألة وقت وحسب .

السؤال الجوهري أمام تعزز منطق تحقيق السلام في ظل بقاء  الاحتلال على حساب الأرض مقابل السلام يتعلق بما يمكن للشعب الفلسطيني عمله، وهو محدود على المستوى الرسمي سواء في رام الله أو غزة ، ومقاوم بطولي ولكن غير منظم على المستوى الشعبي في الضفة . مع ذلك يمكن القول بدرجة عالية من اليقين بأن هندسة السلام في ظل استمرار الاحتلال  بالطريقة المطروحة هو مشروع وهمي يستحيل نجاحه، فالسلام لا يتأتى إلا بتحقيق الحقوق ، وليس ببناء هياكل وصورة سلام بدون تحقيق جوهره.